على بركة الله نبدأ بالمقالة الأولى تحت عنوان ""الشعور و اللاشعور"".
1- النظرية التقليدية في الشعور:
يعتقد
أصحاب هذه النظرية أن الحياة النفسية بمختلف حوادثها تقوم على أساس
الشعور، و كان "" رونيه ديكارت ""( 1596-1650) من بين الفلاسفة الأوائل
الذين عبروا عن هذه النظرية، حيث إنطلق من مسلمة أولوية الفكر على الوجود و
بين أن النفس البشرية لا تنقطع عن التفكير إلا إذا انعدم وجودها. و أن
الشعور باعتباره حدسا يقدم لنا معرفة تامة و لا يخطئ في معرفة ما يجري من
حوادث في عالمنا الداخلي، و فقدان الشعور بها دليل قاطع على زوالها، إذ لا
وجود لحياة نفسية لا نشعر بها بدليل أننا لا نستطيع القول بأن الإنسان يشعر
في هذا الحال و لا يشعر في ذاك، ما دام الاستمرار من خصائص الشعور.
و هذا ما رآه من قبل "" ابن سينا ""( 980-1037م) و أوضح أن الإنسان السوي
إذا ما تأمل في نفسه يشعر أن ما تتضمنه من أحوال في الحاضر هو امتداد
للأحوال التي كان عليها في الماضي، و سيظل يشعر بتلك الأحوال طيلة حياته،
لأن الشعور بالذات لا يتوقف أبدا.
إذن
الشعور هو أساس الحياة النفسية من بدايتها إلى نهايتها، و القول بوجود
حياة نفسية لا شعورية هو من باب الجمع بين نقيضين في الشيء الواحد. فإذا
كانت الحياة النفسية في جوهرها شعورية فمن المستحيل أن تكون لا شعورية، و
عليه فلا يمكننا أن نتصور عقلا لا يعقل و نفسا لا تشعر، و ما دام الأمر
كذلك فالشعور يبقى الأساس الوحيد للحياة النفسية.
لكن
معطيات علم النفس الحديث بينت أن الحياة النفسية ليست مطابقة دائما للحياة
الشعورية، بل هي أوسع من ذلك. و قد برهن علماء النفس على أن ماهو نفسي قد
يكون مطابقا لما هو شعوري في بعض الحالات، لكن قد يتطابق مع أمر آخر غير
شعوري، بمعنى أن للحياة النفسية جانبان: الأول شعوري و الثاني لا شعوري.
2- اللاشعور:
يتلخص
مفهوم اللاشعور عند "" فرويد "" في تلك الحوادث النفسية الباطنية التي
تؤثر في سلوك الإنسان، و تجعله يقوم بحركات و تصرفات دون وعي، و قد استدل
"" فرويد "" على وجود اللاشعور من خلال الوقائع التالية:
أ- فلتات اللسان و زلات القلم:
إن
الناس في حياتهم اليومية يقومون بأفعال مخالفة لنواياهم و مقاصدهم تظهر
على الخصوص في الهفوات و الزلات التي تصدر على لسان صاحبها أو قلمه و التي
يمكن أن تغير المعنى الذي يريد تبليغه، فتسبب له نوعا من الحرج مثل الأستاذ
الجامعي الذي يقف في حفل عام ليثني على سلفه، فإذا به يقول لا يسعني إلا
أن أشكره و أهنئه على "" جموده "" في البحث بدلا من أن يقول على "" جهوده
"" في البحث. و مثل الشخص الذي يكتب لصديقه فيقول له: أشكر الله على ما أنت
فيه من "" نقمة "" بدلا من "" نعمة "" أو يقول إن لقاءنا القادم "" أنحس
"" فرصة بدلا من "" أحسن "" فرصة.
فهذه
الهفوات و الزلات و غيرها لها دلالات نفسية لا شعورية مثل: النفور و
الغيرة و الكراهية، و ليست صادرة عن سهو، أو غفلة أو تعب كما يظن الناس.
ب- النسيان:
النسيان
بمختلف حالاته له صلة قوية بالميول و الرغبات المكبوتة في اللاشعور. لأن
الشخص يتذكر الحوادث النفسية العادية بسهولة، أما الحوادث النفسية المؤلمة
فهو يميل إلى كبتها و لا يرغب في تذكرها، لتستقر في اللاشعور فينساها و
تصبح بالنسبة إليه مجهولة رغم أنها تؤثر في سلوكه تأثيرا قويا. و هذا ما
كشف عنه "" فرويد"" من خلال التحليل النفسي، حيث لاحظ أن الأمراض العصبية
لها دلالات نفسية لا شعورية، و هي ناتجة عن عقد نفسية تسببت فيها حوادث
نفسية مؤلمة نسيها المريض، بدليل أن تذكر المريض لهذه الحوادث أثناء جلسات
العلاج يؤدي إلى شفائه.
ج- الأحلام:
يعتبر
النوم فرصة مواتية لظهور الميول و الرغبات المكبوتة في اللاشعور و ذلك في
صور رمزية مختلفة، فليس النوم عند "" فرويد "" تركيبا عشوائيا للتصورات و
الأفكار، بل هو نشاط نفسي له دلالات لا شعورية، فهو يكشف عن المتاعب و
الصراعات النفسية التي يعانيها النائم تحت تأثير ميوله و رغباته المكبوتة، و
من هنا كانت الأحلام تعبيرا رمزيا عن تلك الميول و الرغبات.
فالصبي
الذي حرم من لباس العيد يرى نفسه في المنام داخل متجر مليء بالألبسة
الجميلة، و المرأة الحامل التي تتمنى أن يكون مولودها طفلا ترى نفسها في
المنام و هي تدخن في السجائر. و الفتاة التي ترغب في الزواج ترى نفسها في
المنام و هي ترتدي الفستان الأبيض الذي اشتراه لها أبوها.
من هذه الأمثلة و غيرها نرى أن عالم الأحلام يعتبر ميدانا خصبا لتحقيق الميول و الرغبات اللاشعورية، و ذلك بطريقة خيالية وهمية.
المقالة الثانية:
آثار العادة على السلوك:
-
مما لا شك فيه أن العادة تؤثر في السلوك تأثيرا قويا و تطبعه بطابع خاص،
إلا أن الفرد يجد صعوبة كبرى في تعديل أو تغيير العادات التي اكتسبها مما
يوحي لنا أن للعادة آثارا واضحة في السلوك. و إذا كانت هذه الآثار إيجابية
فمن غير المستبعد أن تترتب عليها آثار أخرى سلبية.
1- الآثار الإيجابية:
من
خصائص مفهوم العادة نستنتج أن العادة تلعب دورا حيويا في حياة الإنسان،
فالتوافق و الانسجام بين أفراد المجتمع مصدره العادة، لأنها تجعل البيئة
مألوفة لديهم، و هذا ما يفسر لنا آلية العلاقات الاجتماعية و مرونتها و
سهولتها و سلوكنا اليومي تتحكم فيه آليات جسمية و نفسية مختلفة، كما يبدو
لنا في مختلف الحركات التي نقوم بها، و في القدرات الذهنية المختلفة.
و
على هذا الأساس يمكن القول إن آلية العادة يترتب عليها نقصان في الشعور
بالأفعال و الأعمال، و المواقف، و هذا يؤدي إلى الاقتصاد في الجهد، بحيث
يستطيع الإنسان أن ينجز أعمالا كثيرة في وقت قصير، بدليل أن الجهد الذي
يبذله المتعلم يتناقص شيئا فشيئا حتي يصير قادرا في النهاية على الاستجابة
الآلية لكثير من المنبهات الخارجية، فالتلميذ عندما يدق الجرس في نهاية
الحصة يجمع أدواته بطريقة آلية سريعة و يستعد للخروج من القسم.
من هذا يتبين لنا أن العادة تؤثر في السلوك تأثيرا إيجابيا لأنها أساس فاعليته المتمثلة في إتقان الأفعال، و جودة الأعمال.
و لا أدل على ذلك الفرق الشاسع بين ذوق الطعام الذي يصنعه طباخ عريق في
مهنة الطبخ، و ذوق الطعام الذي يصنعه طباخ مبتدئ. و الفرق شاسع كذلك بين
قيمة اللوحة الزيتية التي رسمها فنان ذو خبرة طويلة، و بين قيمة اللوحة
التي رسمها فنان ذو خبرة محدودة. و لهذا قيل أن العادة مصدر الإبداع في
مختلف الميادين.
2- الآثار السلبية:
إن
الآثار الإيجابية التي سجلناها لا تنفي إمكانية انعكاس العادة على السلوك
بصورة سلبية فقد تنقلب مرونتها إلى صلابة تعوق نشاط الإنسان، و تمنعه من
التحرر و الانطلاق نحو آفاق المستقبل، و بالتالي تقف حاجزا أمام تطوره و
تقدمه، و الدليل على ذلك أن الإنسان يجد صعوبة كبرى في التكيف مع الأوضاع
الجديدة التي تتناقض مع ما ألف أن يفكر و يعمل في نطاقه، فمن تعود على
العيش في طقس بارد يجد صعوبة في التكيف مع الطقس الحار، و من تعود على
التفكير بطريقة حدسية ينفر من التفكير بطريقة استدلالية.
و هكذا يبقى الإنسان سجين آلية العادة التي تجعل حياته تسير وفق نمط ثابت
خال من الأحاسيس و المشاعر الفياضة و المثيرة. فالشخص الذي تعود على مشاهدة
بعض المواقف يفقد الشعور بإثارتها، و هذا ينطبق أيضا على العلاقات
الاجتماعية التي فقدت حيويتها و جاذبيتها بحكم العادات و التقاليد، و نتيجة
لذلك تتقلص روح التجديد في المجتمع.
و من هنا نستخلص أن السلوك المبني على العادة يتصف بالتحجر و الرتابة و أن
العادة بطبيعتها تولد في الإنسان الميل إلى الجمود و الركود، مما يؤدي
حتما إلى إخماد روح المبادرة لديه و انعدام الرغبة في الإبتكار و الإبداع و
هذا ما عبر عنه "" جون جاك روسو "" (1712-1778) عندما قال: (( خير عادات
الإنسان ألا يتعود شيئا )). لأن العادة في نظره تعوق إرادة الإنسان و تحد
من فعاليته.
لا
جدال في أن "" روسو "" قد تشدد في موقفه، لأن العادة مهما قيل عن آثارها
السلبية على سلوك الإنسان تبقى وظيفة نفسية حيوية بالنسبة لتكيف الإنسان مع
البيئة الخارجية. و إذا كان تكوين العادة يقتضي كما رأينا تدخل الإرادة،
فإن الإرادة بدورها لا تستطيع أن تقوم بوظيفتها دون الاستناد إلى آليات
العادة. مما يجعلنا نعتقد في النهاية أن الآثار السلبية التي تنطوي عليها
العادة يمكن التغلب عليها بواسطة الإرادة.
المقالة الثالثة:
طبيعة القيمة الأخلاقية:
-
لقد تناول فلاسفة الأخلاق مسألة طبيعة القيمة الأخلاقية بالدراسة و البحث و
تباينت مواقفهم في تفسيرها، و يمكن حصر هذا التباين في موقفين: الأول جعل
القيم الأخلاقية تابعة للإنسان، و اعتبرها نسبية. و الثاني جعل الإنسان
تابعا للقيم الأخلاقية، و اعتبرها مطلقة.
1- القيمة الأخلاقية ذاتية:
يرى
أنصار هذا الموقف أن القيمة الأخلاقية لا وجود لها في حد ذاتها و لا تتمتع
بأي استقلال عن السلوك الذي يتصف بها، فوجود القيمة الأخلاقية هنا يحدده
وجود الإنسان الذي يبدعها، و لا سيما الإنسان الواعي.
و
القول بنسبية القيمة الأخلاقية نابع من تبعيتها للإنسان، و من ارتباطها
بحاجته و رغباته، و لا يمكن أن يكون لها وجود خارج هذا العالم الذاتي الذي
تكونه رغباتنا و أفكارنا. و لقد عبر (( السفسطائيون )) عن هذا الموقف أحسن
تعبير و قالوا: (( الإنسان مقياس الأشياء كلها، إنه مقياس الأشياء
الموجودة، من حيث هي موجودة و مقياس الأشياء غير الموجودة، من حيث هي غير
موجودة )).
و
في ضوء هذا القول نصحوا الإنسان بعدم الإهتمام بأمور الآلهة التي لا يعرف
عنها شيئا و ألا يشتغل إلا بما يقع في نطاق إنسانيته. و من الضروري أن
يعتمد على ذاته فيما يصدره من أحكام، لأنه مستقل عن كل الأسباب الخارجية و
استقلاله كما يبين (( السفسطائيون )) يظهر في مجال الأخلاق و السياسة. فما
يظهر له خيرا فهو خير، و ما يظهر له شرا فهو شر، و ما يظهر له عدلا فهو
عدل، و ما يظهر له ظلما فهو ظلم.
و
ما يترتب على هذا هو أن القيم بصفة عامة و القيم الأخلاقية بصفة خاصة
تابعة للإنسان و وجودها متوقف على وجوده، و هذا ما ذهب إليه "" جون بول
سارتر "" (1905-1980) حيث أكد هو الآخر على أن كل إنسان يضع قيمه بنفسه ما
دامت الحرية هي نسيج وجوده، و وجوده سابق على ماهيته فهو يقول: (( ليس لي و
لا أستطيع أن ألجأ إلى أية قيمة ضد هذه الواقعة و هي أنني أنا الذي أؤمن
الوجود للقيم (...) و أنا وحدي الذي أقرر دون تبرير أو اعتذار )).
إن
هذا القول يوضح لنا أن القيمة الأخلاقية عند "" سارتر "" لا وجود لها إلا
بوجود الإنسان ، و ليس لها في ذاتها كيان مستقل عن ذاته، أي أن الأشياء و
الأفعال لا تحمل في ذاتها قيما بل الإنسان هو الذي يمنحها إياها. فالإنسان
كما يشير "" سارتر "" هو الذي يقرر الخير و يصنع الشر و بهذا تكون القيم
الأخلاقية سواء عند (( السفسطائيين )) أو عند "" سارتر "" نسبية و متغيرة،
أي ذاتية.
لكن
ربط القيمة الأخلاقية بالإنسان و تعليل وجودها بميوله و رغباته و
اختياراته يفقدها خصائصها الروحية و يجعلها حبيسة العالم الحسي الذي يتميز
بالاضطراب و التناقض. و هذا يتنافى مع الروح الأخلاقية السامية، و يتعارض
مع كل تنظيم أخلاقي يطمح إلى تحقيق الكمال الإنساني.
2- القيمة الأخلاقية موضوعية:
إن
القيمة الأخلاقية في نظر أصحاب هذا الموقف لها وجود كوجود السلوك الذي
تتصف به، و لا تربط في وجودها بسبب من الأسباب التي تجعل منها قيمة متغيرة
بل هي ثابتة و مستقلة عن الإنسان، و لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يدركها و
لا يتأثر بصورتها التي تجذبه إليها و تغمره بنورها كما يشير إلى ذلك ""
أفلاطون "" (347-429 ق.م). و لقد سلك "" أفلاطون "" في معالجة مشكلة طبيعة
القيمة الأخلاقية مسلكا مغايرا لمسلك السفسطائيين و انطلق من مبدإ مناقض
لمبدئهم حيث يقول: (( إن الإله مقياس الأشياء كلها و ليس الإنسان )).
و
على هذا الأساس يرى أن عالم الأشياء الذي نعيش فيه و ندركه بحواسنا هو ظل
لعالم آخر أسمى منه، و هو عالم المثل الذي يوجد فيه مثال معنوي أو روحي لكل
ما في هذا العالم من الموجودات، فالأشياء التي نراها في الواقع تشارك
بدرجات متفاوتة الحقائق المماثلة لها في العالم العلوي، و التي تتميز
بالكلية و الثبات. فالحقائق التي تعطي للحياة الإنسانية قيمتها مثل العدل و
الجمال و الخير لا وجود لها عند "" أفلاطون "" فهي توجد أولا و قبل كل شيء
في عالم المثل قبل أن توجد في عالم الحس.
و
انطلاقا من هذا تكون الفكرة هي مقياس وجود كل شيء في الواقع، ذلك أن ما
نراه في عالم الحس من قيم أخلاقية جزئية مثل الصدق و الأمانة و الكرم هي في
الأصل قيم كلية ثابتة أو مطلقة توجد في عالم المثل، و لكن الإنسان لا
يدركها عن طريق الحواس بل يدركها عن طريق العقل، لأن روحه كانت تقيم في
عالم المثل قبل اتصالها بجسده، و لكن اتحاد الروح بالجسد لم ينسها ما كانت
عليه و بقيت لها ذاكرة تسترجع من خلالها القيم الأخلاقية الأصلية كلما
أثارتها السلوكات التي تشارك فيها.
و
عليه فالإنسان لا يصنع القيم الأخلاقية لأن وجودها سابق عليه و هي تتصف
بالكلية و الثبات و هذا ما يجعلها واحدة بالنسبة لجميع البشر، و من ثمة
كانت موضوعية.
إذا
كانت القيم الأخلاقية تتعلق بالصورة التي ينبغي أن يكون عليها سلوك
الإنسان، فإن القول باستقلالها عن ذاته يفقدها حيويتها و فعاليتها التي لا
يمكن فصلها عن طبيعته و حريته. فلو كانت القيم الأخلاقية مطلقة لما تغيرت
بتغير المكان و الزمان و التاريخ يشهد أن القيم الأخلاقية السائدة في
المجتمعات الحديثة تختلف اختلافا أساسيا عن القيم الأخلاقية التي كانت
سائدة في المجتمعات القديمة.
و
النتيجة العامة التي نخلص إليها هي أن القول بذاتية القيم الأخلاقية هو
نفي لكيانها المستقل و إثبات لأثر الإنسان في وجودها، كما أن القول بأنها
مطلقة هو نفي لأثر الإنسان فيها و إثبات لوجودها المستقل. و مهما يكن من
أمر فإن الإنسان لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستغني عن القيم الأخلاقية
سواء كان مصدرا لها أو متطلعا إليها، لأن حياته لا تستقيم إلا بها و أن
وجودها لا معنى له إلا بالإنسان الذي يعيها و يعمل من أجل تحقيقها.
المقالة الرابعة: تحت عنوان '' عوامل الإدراك '':
-
لاشك في أن إدراك الإنسان يتأثر بأحواله و ظروفه الخاصة كما يتأثر بخصائص
البيئة التي وُجد فيها، و هذا يعني أن عملية الإدراك تخضع لعوامل مختلفة،
فماهي هذه العوامل؟
1- العوامل الذاتية:
- إن تكوين الإدراك يتأثر بعوامل ذاتية مختلفة لأن الإنسان لا يستجيب لكل
المنبهات بدرجة واحدة، بل يتأثر بمنبهات معينة دون غيرها، و هي التي تجلب
انتباهه و تسيطر على شعوره، فالميول و الانفعالات تؤثر في سلوك الإنسان و
توجهه، و الفرد يدرك بسهولة الأشياء التي تتفق مع ميوله و رغباته و تنسجم
مع اتجاه طبعه. و أما الأشياء التي تخالف ميوله فلا يدركها إلا بصعوبة أو
يدركها إدراكا مشوها كما هو الشأن بالنسبة للانفعال، أي أن إدراك الفرد
يتغير بتغير حالاته الانفعالية، و نظرته للأفراد الآخرين كثيرا ما تختلف
باختلاف حالته العاطفية، فإذا كان في حالة استقرار و هدوء نظر إليهم نظرة
مشرقة و العكس صحيح.
من
هذا نستنتج أن الإدراك الصحيح للأشياء و الأشخاص يقتضي تماسك الذهن و
يستلزم الانتباه و الاهتمام، إذ بواسطة الانتباه يختار أو ينتقي الفرد
موضوعات الإدراك و ذلك حسب اهتماماته، فالموضوعات التي يهتم بها ينتبه
إليها و يدركها بسرعة، بينما الموضوعات التي لا يعيرها أي اهتمام فهي تمر
أمامه دون أن يميز بعضها عن بعض. و هذا يعني أن إدراك الإنسان يتغير بتغير
اهتماماته. و لكن سرعة الإدراك لا تكون دائما نتيجة لعامل الانتباه و
الاهتمام، و إنما قد تكون نتيجة لعامل آخر و هو عامل التجربة السابقة. و من
المحقق أن لكل فرد تجاربه السابقة أو الخاصة التي يعتمد عليها في إدراكه
بدليل أننا ندرك أي موضوع بسرعة أكثر إذا كنا قد تعودنا على إدراك من قبل، و
لهذا قيل أن الإدراك تَعَرٌُف أي نتعرف على تجاربنا السابقة من خلال
الأشياء التي ندركها في الحاضر.
2- العوامل الموضوعية:
- تعتبر البيئة بمختلف جوانبها إطارا عاما لتشكيل إدراك الإنسان، ذلك أن
عالم سكان الجبال يختلف عن عالم سكان السهول، كما أن عالم سكان المدينة
يختلف عن عالم سكان الريف. و هذا يعني أن اختلاف البيئات الطبيعية و
الاجتماعية يؤدي حتما إلى اختلاف تكوين الادراكات عند الناس، لأن لكل بيئة
خصائص تنعكس على أذهان أبنائها و تجعلهم يدركون الأشياء و الأمور في حدود
مجالاتها، و أساليب الحياة و العمل السائدة فيها. و لهذا كانت التربية التي
يتلقاها الفرد من أسرته أو مجتمعه عاملا رئيسيا في تحديد مجال إدراكه و
نمطه.
و
تعلم الطفل للغة يتضمن استعابه لمعاني الأشياء و الأمور، و في ضوء ما
يكتسبه الطفل من بيئته يتحدد مجال ادراكه و تتبلور نظرته للأشياء الخارجية
التي تحيط به، و الدليل على ذلك أن إدراكات أبناء الجنوب تختلف عن إدراكات
أبناء الشمال، كما أن إدراكات أبناء الشمال تختلف عن إدراكات أبناء الجهات
الأخرى.
و
على هذا الأساس يمكن القول أن إدراك الإنسان يتشكل وفق المعايير التي
حددتها البيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها، و علم النفس الاجتماعي يقدم
لنا أدلة كثيرة على أثر البيئة في تشكيل إدراك الإنسان و يبين لنا أن نظرة
الإنسان الذي يعيش في مجتمع متحضر تختلف اختلافا كبيرا عن نظرة الإنسان
الذي لا يزال يعيش في مجتمع بدائي قوامه السحر و الخرافة.
و النتيجة التي نصل إليها من خلال هذا التحليل هي أن العلاقة بين العوامل
الذاتية و العوامل الموضوعية مبنية على الاختلاف أو التناقض لأن الأولى
داخلية و هي تتعلق بخصائص شخصية الفرد و أحواله، بينما الثانية خارجية و هي
تتعلق بالإطار العام الذي يحيط بشخصية الفرد. و لكن هذا الاختلاف أو
التناقض يمكن أن يزول لأننا من الناحية العملية لا نستطيع أن نفصل بين ماهو
داخلي و ماهو خارجي في شخصية الإنسان. أي أن تشكيل الإدراك عند الإنسان لا
يمكن أن يرجع إلى العوامل الذاتية فقط أو إلى العوامل الموضوعية فقط بل
يرجع إليهما معا.